كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الخامسة: اتفق العلماء على أنه إذا صرح بالزنى كان قذفًا ورَمْيًا موجبًا للحدّ، فإن عرّض ولم يُصرّح فقال مالك: هو قذف.
وقال الشافعيّ وأبو حنيفة: لا يكون قذفًا حتى يقول أردت به القذف.
والدليل لما قاله مالك هو أن موضوع الحدّ في القذف إنما هو لإزالة المعرّة التي أوقعها القاذف بالمقذوف، فإذا حصلت المعرّة بالتعريض وجب أن يكون قذفًا كالتصريح والمعوّل على الفهم؛ وقد قال تعالى مخبرًا عن شعيب: {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} [هود: 87] أي السفيه الضال؛ فعرّضوا له بالسب بكلام ظاهره المدح في أحد التأويلات، حسبما تقدم في هود.
وقال تعالى في أبي جهل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49].
وقال حكاية عن مريم: {ياأخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28]؛ فمدحوا أباها ونفَوْا عن أمها البغاء، أي الزنى، وعرّضوا لمريم بذلك؛ ولذلك قال تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء: 156]، وكفرُهم معروف، والبهتان العظيم هو التعريض لها؛ أي ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمّك بغيًّا، أي أنت بخلافهما وقد أتَيْتِ بهذا الولد.
وقول تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السماوات والأرض قُلِ الله وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24]؛ فهذا اللفظ قد فُهم منه أن المراد به أن الكفار على غير هدًى، وأن الله تعالى ورسوله على الهُدَى؛ ففُهِم من هذا التعريض ما يفهم من صريحه.
وقد حبس عمر رضي الله عنه الحُطيئة لما قال:
دَعِ المكارِمَ لا ترحل لبُغْيتها ** واقعد فإنك أنت الطّاعِمُ الكاسِي

لأنه شبهه بالنساء في أنهن يُطْعَمْن ويُسقين ويُكسون.
ولما سمع قول النجاشيّ:
قبيلته لا يغدِرون بذمة ** ولا يظلمون الناس حَبّة خَرْدَلِ

قال: ليت الخَطّاب كذلك؛ وإنما أراد الشاعر ضعف القبيلة؛ ومثله كثير.
السادسة: الجمهور من العلماء على أنه لا حدّ على من قذف رجلًا من أهل الكتاب أو امرأة منهم.
وقال الزُّهرِيّ وسعيد بن المسيّب وابن أبي لَيْلَى: عليه الحدّ إذا كان لها ولد من مسلم.
وفيه قول ثالث: وهو أنه إذا قذف النصرانية تحت المسلم جُلِد الحدّ.
قال ابن المنذر: وجُلّ العلماء مجمِعون وقائلون بالقول الأوّل، ولم أدرك أحدًا ولا لقِيته يخالف في ذلك.
وإذا قذف النصرانيّ المسلمَ الحرّ فعليه ما على المسلم ثمانون جلدة؛ لا أعلم في ذلك خلافًا.
السابعة: والجمهور من العلماء على أن العبد إذا قذف حُرًّا يجلد أربعين؛ لأنه حدٌّ يتشطّر بالرق كحدّ الزنى.
وروي عن ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز وقَبِيصة بن ذؤيب يجلد ثمانين.
وجلد أبو بكر بن محمد عبدًا قذف حرًا ثمانين؛ وبه قال الأوزاعيّ.
احتج الجمهور بقول الله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25].
وقال الآخرون: فهمنا هناك أن حدّ الزنى لله تعالى، وأنه ربما كان أخفَّ فيمن قلّت نعم الله عليه، وأفحش فيمن عظمت نعم الله عليه.
وأما حدّ القذف فحق للآدميّ وجب للجناية على عرض المقذوف، والجناية لا تختلف بالرقّ والحرية.
وربما قالوا: لو كان يختلف لذُكر كما ذكر في الزنى.
قال ابن المنذر: والذي عليه عوامّ علماء الأمصار القولُ الأوّل، وبه أقول.
الثامنة: وأجمع العلماء على أن الحرّ لا يجلد للعبد إذا افترى عليه؛ لتباين مرتبتهما، ولقوله عليه السلام: «من قذف مملوكه بالزنى أقيم عليه الحدّ يوم القيامة إلا أن يكون كما قال» خرّجه البخاريّ ومسلم.
وفي بعض طرقه: «من قذف عبده بزنًى ثم لم يُثبت أقيم عليه يوم القيامة الحدّ ثمانون» ذكره الدّارَقُطْنِيّ.
قال العلماء: وإنما كان ذلك في الآخرة لارتفاع المِلْك واستواء الشريف والوضيع والحرّ والعبد، ولم يكن لأحد فضل إلا بالتقوى؛ ولما كان ذلك تكافأ الناس في الحدود والحرمة، واقتُصّ من كل واحد لصاحبه إلا أن يعفو المظلوم عن الظالم.
وإنما لم يتكافؤوا في الدنيا لئلا تدخل الداخلة على المالكين في مكافأتهم لهم، فلا تصح لهم حرمة ولا فضل في منزلة، وتبطل فائدة التسخير؛ حكمةٌ من الحكيم العليم، لا إله إلا هو.
التاسعة: قال مالك والشافعيّ: من قذف من يحسبه عبدًا فإذا هو حر فعليه الحدّ؛ وقاله الحسن البصريّ واختاره ابن المنذر.
قال مالك: ومن قذف أمّ الولد حُدّ؛ وروي عن ابن عمر، وهو قياس قول الشافعيّ.
وقال الحسن البصريّ: لا حدّ عليه.
العاشرة: واختلف العلماء فيمن قال لرجل: يا من وطىء بين الفخذين؛ فقال ابن القاسم: عليه الحدّ؛ لأنه تعريض.
وقال أشهب: لا حدّ فيه؛ لأنه نسبة إلى فعلٍ لا يعدّ زنًى إجماعًا.
الحادية عشرة: إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قذفًا عند مالك.
وقال أبو حنيفة والشافعيّ وأبو ثور: ليس بقذف؛ لأنه ليس بزنًى إذ لا حدّ عليها، ويعزّر.
قال ابن العربيّ: والمسألة محتملة مشكلة، لكن مالك طلب حماية عرض المقذوف، وغيرُه راعى حمايةَ ظهر القاذف؛ وحمايةُ عرض المقذوف أولى؛ لأن القاذف كشف ستره بطرف لسانه فلزمه الحدّ.
قال ابن المنذر: وقال أحمد في الجارية بنتِ تسع: يجلد قاذفها، وكذلك الصبيّ إذا بلغ عشرًا ضُرب قاذفه.
قال إسحاق: إذا قذف غلامًا يطأ مثلُه فعليه الحدّ، والجارية إذا جاوزت تسعًا مثل ذلك.
قال ابن المنذر: لا يحدّ من قذف من لم يبلغ؛ لأن ذلك كذب، ويعزّر على الأذى.
قال أبو عبيد: في حديث عليّ رضي الله عنه أن امرأة جاءته فذكرت أن زوجها يأتي جاريتها فقال: إن كنتِ صادقةً رجمناه وإن كنت كاذبة جلدناك.
فقالت: رُدّوني إلى أهلي غَيْرَى نَغِرَة.
قال أبو عبيد: في هذا الحديث من الفقه أن على الرجل إذا واقع جارية امرأته الحدَّ.
وفيه أيضًا إذا قذفه بذلك قاذف كان على قاذفه الحدّ؛ ألا تسمع قوله: وإن كنتِ كاذبة جلدناك.
ووجه هذا كله إذا لم يكن الفاعل جاهلًا بما يأتي وبما يقول، فإن كان جاهلًا وادّعى شُبهة دُرِىء عنه الحدّ في ذلك كله.
وفيه أيضًا أن رجلًا لو قذف رجلًا بحضرة حاكم وليس المقذوف بحاضر أنه لا شيء على القاذف حتى يجيء فيطلب حدّه؛ لأنه لا يدري لعله يصدقه؛ ألا ترى أن عليًّا عليه السلام لم يعرض لها.
وفيه أن الحاكم إذا قُذف عنده رجل ثم جاء المقذوف فطلب حقه أخذه الحاكم بالحدّ بسماعه؛ ألا تراه يقول: وإن كنتِ كاذبة جلدناك؛ وهذا لأنه من حقوق الناس.
قلت: اختلف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الآدميين؛ وسيأتي.
قال أبو عبيد: قال الأصمعي سألني شعبة عن قوله: غَيْرَى نَغِرة؛ فقلت له: هو مأخوذ من نَغَرِ القِدْرِ، وهو غليانها وفَوْرُها؛ يقال منه: نَغِرت تَنْغَر، ونَغَرت تَنْغِر إذا غلت.
فمعناه أنها أرادت أن جوفها يَغْلِي من الغيظ والغَيْرة لمّا لم تجد عنده ما تريد.
قال: ويقال منه رأيت فلانًا يتنغّر على فلان؛ أي يغلي جوفه عليه غيظًا.
الثانية عشرة: من قذف زوجة من أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم حُدّ حدّين؛ قاله مسروق.
قال ابن العربيّ: والصحيح أنه حدّ واحد؛ لعموم قوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} الآية، ولا يقتضي شرفُهن زيادة في حَدّ من قذفهن؛ لأن شرف المنزلة لا يؤثّر في الحدود ولا نقصها يؤثر في الحدّ بتنقيص.
والله أعلم.
وسيأتي الكلام فيمن قذف عائشة رضي الله عنها، هل يقتل أم لا.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الذي يفتقر إلى أربعة شهداء دون سائر الحقوق هو الزنى؛ رحمةً بعباده وسترًا لهم.
وقد تقدّم في سورة النساء.
الرابعة عشرة: مِن شرط أداء الشهود الشهادة عند مالك رحمه الله أن يكون ذلك في مجلس واحد؛ فإن افترقت لم تكن شهادة.
وقال عبد الملك: تقبل شهادتهم مجتمعين ومفترقين.
فرأى مالك أن اجتماعهم تعبّد؛ وبه قال ابن الحسن.
ورأى عبد الملك أن المقصود أداء الشهادة واجتماعها وقد حصل؛ وهو قول عثمان البَتِّيّ وأبي ثَوْر واختاره ابن المنذر لقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} وقوله: {فإِنْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء} ولم يذكر مفترقين ولا مجتمعين.
الخامسة عشرة: فإن تمت الشهادة إلا أنهم لم يُعَدَّلوا؛ فكان الحسن البصريّ والشَّعْبِيّ يَريَان أن لا حدّ على الشهود ولا على المشهود؛ وبه قال أحمد والنّعمان ومحمد بن الحسن.
وقال مالك: إذا شهد عليه أربعة بالزنى فإن كان أحدهم مسخوطًا عليه أو عبدًا يجلدون جميعًا.
وقال سفيان الثوريّ وأحمد وإسحاق في أربعة عميان يشهدون على امرأة بالزنى: يضربون.
السادسة عشرة: فإن رجع أحد الشهود وقد رُجم المشهود عليه في الزنى؛ فقالت طائفة: يَغْرَم ربع الدية ولا شيء على الآخرين.
وكذلك قال قتادة وحماد وعكرمة وأبو هاشم ومالك وأحمد وأصحاب الرأي.
وقال الشافعيّ: إن قال تعمدت ليقتل؛ فالأولياء بالخيار إن شاؤوا قتلوا وإن شاؤوا عفوْا وأخذوا ربع الدية، وعليه الحدّ.
وقال الحسن البصريّ: يقتل، وعلى الآخرين ثلاثة أرباع الدية.
وقال ابن سِيرين: إذا قال أخطأت وأردت غيره فعليه الدية كاملة، وإن قال تعمّدت قتل به؛ وبه قال ابن شُبْرُمَة.
السابعة عشرة: واختلف العلماء في حدّ القذف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الأدميّين أو فيه شائبة منهما؛ الأول: قول أبي حنيفة.
والثاني: قول مالك والشافعيّ.
والثالث: قاله بعض المتأخرين.
وفائدة الخلاف أنه إن كان حقًا لله تعالى وبلغ الإمام أقامه وإن لم يَطلب ذلك المقذوفُ، ونفعت القاذف التوبةُ فيما بينه وبين الله تعالى، ويتشطّر فيه الحدّ بالرق كالزنى.
وإن كان حقًا للآدمي فلا يقيمه الإمام إلا بمطالبة المقذوف، ويسقط بعفوه، ولم تنفع القاذفَ التوبةُ حتى يحلله المقذوف.
الثامنة عشرة: قوله تعالى: {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} قراءة الجمهور على إضافة الأربعة إلى الشهداء.
وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار وأبو زُرعة بن عمرو بن جرير {بِأربعةٍ} بالتنوين {شُهَدَاءَ}.
وفيه أربعة أوجه: يكون في موضع جر على النعت لأربعة، أو بدلًا.
ويجوز أن يكون حالًا من نكرة أو تمييزًا؛ وفي الحال والتمييز نظر؛ إذ الحال من نكرة، والتمييز مجموع.
وسيبويه يرى أنه تنوين العدد، وتركُ إضافته إنما يجوز في الشعر.
وقد حسّن أبو الفتح عثمان بن جِنّي هذه القراءة وحبب على قراءة الجمهور.
قال النحاس: ويجوز أن يكون {شهداء} في موضع نصب، بمعنى ثم لم يحضروا أربعة شهداء.
التاسعة عشرة: حكم شهادة الأربعة أن تكون على معايَنة يرَوْن ذلك كالمِرْوَد في المُكْحُلة؛ على ما تقدّم في النساء في نص الحديث.